• نظرية ضعف الشعر في صدر الإسلام وبطلانها

    إن قضية موقف الإسلام من الشعر أحاطها اللبس والتشويه وسوء الفهم حيث وقف كثير من النقاد والباحثين موقفاً سلبياً يتمثلُ بادعائهم أن الإسلام كان سبباً في ضعف الشعر والشعراء في صدر الإسلام بل ادعى بعض المحدثين أن الإسلام حارب الشعر وتنكر له ولهذا أصبح الشعر في صدر الإسلام قليلاً ضعيفاً ركيكاً، وهم يستدلون على دعواهم بالآيات الواردة في سورة الشعراء ولا يعيرون اهتماماً للاستثناء الوارد فيها ، كما يستدلون ببعض أحاديث النبي المروية في ذم الشعر ، وممن يمثل هذا الموقف السلبي من المحدثين الدكتور عبد العزيز الكفراوي في كتابيه: (الشعر العربي بين الجمود والتطور) و (تاريخ الشعر العربي) ، والدكتور شكري فيصل في كتابه (تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام) والدكتور زكي مبارك في كتابه (الموازنة بين الشعراء) ، والدكتور مدحت الجيّار في كتابه (الشعر العربي من منظور حضاري) ، والأستاذ أحمد حسن الزيّات في كتابه (تاريخ الأدب العربي) والاستاذ جرجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) وغيرهم . وقد استدل معظم أولئك الباحثين فيما ذهبوا إليه من ضعف الشعر في صدر الإسلام بنصوص قديمة تنسب إلى الأصمعي وابن سلاّم وابن خلدون ، فالأصمعي يُروى عنه قوله: (طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان . ألا ترى أن حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي (صلى الله عليه وآله) وحمزة وجعفر (رضوان الله تعالى عليهما) وغيرهم، لا ن شعره ، وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل أمرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل والهجاء والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار، فإذا أدخلته في باب الخير لان). المرزباني ، الموشح /85 وابن سلاّم يقول عن الشعر : (فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته فلما كَثُرَ الإسلام وجاءت الفتوح وأطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدّون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل ، فحفظوا أقلَّ ذلك وذهب عليهم منه كثير). طبقات فحول الشعراء 1/25 وأما ابن خلدون : فيقارن بين ازدهار الشعر في الجاهلية وفتوره في صدر الإسلام فيقول: (ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبي والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمِهِ فأُخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً ثم استقر ذلك وأُونس الرشدُ من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره وسمعه النبي (صلى الله عليه وآله) وأثاب عليه فرجعوا إلى ديدنهم منه). المقدمة / 677 ومن هذه الآراء القديمة وما سار في ركابها من آراء المحدثين تكونت نظرية ضعف الشعر في صدر الإسلام وتبلورت النظرة الخاطئة لموقف الإسلام من الشعر فقد جانب القائلون بهذه النظرية الفهم الموضوعي والاستدلال العلمي فيما ذهبوا إليه وسيطرت على آرائهم عدوى المقولات المجانية والانطباعية وحكَّموا أذواقهم الشخصية في تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بالشعر ولذلك انبرى العديد من النقاد والباحثين الإسلاميين للرد على تلك الآراء المتطرفة وإثبات بطلانها كما فعل الدكتور صالح آدم بيلو في كتابه (من قضايا الأدب الإسلامي) وتحت عنوان (شبهات داحضة واعتراضات مدفوعة) وعالج هذه القضية أيضاً الدكتور عبد الرحيم محمود في كتابه (التأثير النفسي للإسلام في الشعر)، والدكتور سامي مكي العاني في كتابه : (الإسلام والشعر) والدكتور يوسف العظم في كتابه (الشعر والشعراء في القرآن والسنة) ، والدكتور سعد أبو الرضا في كتابه (الأدب الإسلامي قضية وبناء) والدكتور عودة الله منيع القيسي في كتابه: (تجارب في النقد الأدبي التطبيقي) والدكتور عبد الباسط بدر في الفصل الأخير من كتابه (مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي) وغيرهم. والحق أن الوقوف المتأني عند النصوص الشعرية الكثيرة المنتسبة لصدر الإسلام يكشف عن أثر الإسلام الظاهر في ألفاظها ومعانيها وصورها وعواطفها بالإضافة إلى إحكام بناءها الفني ونجد لهذه النصوص شواهد كثيرة في ميدان المدائح النبوية والعلوية وشعر الجهاد والدعوة والغزل العفيف وتصوير الطبيعة وغيرها نجد ذلك لدى شعراء كبار يعدون من الفحول كحسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن روّاحة وكعب بن زهير والنابغة الجعدي وعمرو بن أحمر الباهلي وزيد الخيل الطائي وحُميد بن ثور الهلالي والخنساء والشمّاخ بن ضرار الغطفاني والمزرّد بن ضرار الغطفاني وعبدة بن الطبيب وعمرو بن معد يكرب الزبيدي وغيرهم كثيرون حُققت دواوينهم وطُبعت . ومن يطلع على هذه الدواوين ويتمعن فيها سيجد أن دعوى قلة الشعر وضعفه في صدر الإسلام هي دعوى باطلة ولا تقوم على أساس علمي أو موضوعي أو فني وحين نقرأ في كتب الأدب والتاريخ مثل الأغاني وتاريخ الطبري وسيرة ابن هشام والإصابة والاستيعاب وغيرها فسنجد الشعر يسيل على كل لسان في صدر الإسلام كما نجد أن المفضل الضبي والأصمعي يحتفظان في كتابيهما (المفضليات والأصمعيات) بعدّة مطولات للمخضرمين وقد عقد ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) تراجم لكثيرين منهم وسلك ابن سلاّم في كتابه (طبقات فحول الشعراء) طائفة من مجوِّديهم البارعين ومن يرجع إلى كل هذه المصادر يستقر في نفسه أن الشعر ظل مزدهراً في صدر الإسلام وليس بصحيحٍ أنه توقف أو ضَعُفَ . والحق أن كثيراً من الظواهر التي صنفها النقاد في باب الضعف هي في الواقع نوع من الانعطاف الاسلوبي المتأثر بالمفاهيم الجديدة التي جاء بها الإسلام فهذه الظواهر أدخل في باب التجديد منها في باب الضعف لقد أصبح للشعر مفهوم جديد في ظل الإسلام لم يعد تعبيراً عن قيم وتقاليد جاهلية متخلفة في أكثرها وإنما أصبح تعبيراً عن أهداف رسالة سماوية لم تنزل لهداية العرب وحدهم بل لهداية الناس كافة، لقد نقل الإسلام الشعر نقلة نوعية كبيرة أو أراد له أن ينتقل هذه النُقلة التزاماً بمبادئه ومعاييره فأصبح الشعر المطلوب في ظل الإسلام هو ما كان تعبيراً عن الحق والخير وإنكاراً للباطل والشر وما عداه من ألوان الشعر فمنكرٌ مرفوضٌ وما رآه الأصمعي وغيره في شعر حسّان الإسلامي من اللين والضعف هو مجرد وَهْم وقعوا فيه لأنهم حاكموا هذا الشعر على ما أَلِفُوه من أساليب وفنيات النموذج الشعري الجاهلي ولم يتتبعوا أسباب ميلاد هذه الظاهرة الأدبية التي سيطرت على الشعر الإسلامي بكامله ومنه شعر حسّان الإسلامي حيث اتجه الشعر الإسلامي إلى سهولة الخطاب وعفوية الأداء ووضوح المعاني ودقتها مع الجمع بين الصدق الشعوري والفني دون التنازل عن أساسيات الفن الشعري وكان الشعر الجاهلي يجمع بين الجزالة وقوة المعاني ويقع في ألوان من المبالغة والغموض وتزوير المشاعر فظن الرواة أن ما حدث في الشعر الإسلامي أنه نوع من أنواع اللين والضعف لأنهم حكموا من خلال ما ألِفوا ولم يتحروا رشداً في تفسير هذه الظاهرة لقد نَسِيَ الرواة والنقاد أن الإسلام أتى على الجاهلية فدثرها أثناء الانقلاب العقائدي الذي فعله فسيطر على كل الأشياء ووجهها كما يريد ضمن منهاجه وهديه فتمت له نقلة العرب من الجاهلية إلى الإسلام في جميع مناحي الحياة العقيدية والفكرية والشعورية والسلوكية والتعبيرية واللغوية . وكان للقرآن الكريم أثره الواضح في ميدان اللغة بما أحدثه في أساليب البيان من الانقلاب وفي نقل دلالات اللغة العربية وآدابها إلى مرحلةٍ جديدة وفهم جديد وأداء مبتكر مما كان له الأثر الكبير في ميلاد مذهب جديد في الفن الشعري هو مذهب الشمولية الإسلامية الذي يمثله حسّان بن ثابت في عصر صدر الإسلام نعم ما لان شعر حسان ولا ضعف ولكنها ولادة المذهب الأدبي الإسلامي الذي يؤسس له القرآن الكريم والسنّة المطهرة في موقفهما من الشعر والشعراء بعد ان انحرفت رسالة الشعر قبل الإسلام عن الوضع الكريم الذي يليق بالإنسانية المهذبة والخلق القويم الذي يستقيم به أمر المجتمع إذ كان الشعر الجاهلي يهتك الحرمات ويثير العصبية ويحرض الناس على الاقتتال والتناحر فكان ذلك من معاول الهدم وأسباب الدمار في البيئة الجاهلية ثم جاء الإسلام بدعوة الإخاء والمساواة والعفّة في القول فحرّم على المسلم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ودعا إلى الكفِّ عن القول والفعل الذي يؤذي المجتمع، ولا نجد في القرآن العظيم وسنّة الرسول الكريم ما رآه بعض الناس من موقف الخصومة والمعاداة للشعر والشعراء بعد أن فهموا آيات القرآن وأحاديث الرسول فهماً مغلوطاً ووجهوهما توجيهاً مخالفاً للحقيقة .

    الكاتب: عبد الكريم المحمود

    0المفضلة

    3937 المشاهدات

    0 تعليقات

    المفضلة إبلاغ

التعليقات (0)

المزيد من عبد الكريم المحمود

عرض جميع الأعمال

مواضيع ذات صلة

  • نظرية ضعف الشعر في صدر الإسلام وبطلانها