المدائح النبوية في شعر صدر الاسلام
Oct 3, 2021 02:01 PM Oct 3, 2021 02:01 PM
تميز عصر صدر الاسلام بأهمية كبيرة في رفد الادب العربي بالموضوعات الجديدة والمعاني السامية التي لم يلتفت اليها شعراء العرب في العصر الجاهلي ، ومن أهم تلك الموضوعات حديث الشعراء المسلمين عن شخصية النبي الاكرم (ص) اذ تطرق اولئك الشعراء الى ذكر كثير من الفضائل الاخلاقية التي امتاز بها رسول الله (ص)ومن ذلك وصفه بالشجاعة الفائقة على شجاعة سواه من الابطال وصناديد الحرب ، ووصفه بالكرم والحلم والحكمة والتواضع وصدق الحديث والعفة والبعد عن الفحش وغير ذلك من الاخلاق الحميدة ، كما بين اولئك الشعراء طهارة مولده (ص) وشرف نسبه وثبات اصله . وألحّوا في مدائحهم النبوية على اثبات النبوة وتصديق الوحي المنزل على رسول الله في آيات القرآن الكريم وأظهروا انبهارهم بذلك الفرقان وسلموا به معجزة للنبي (ص) تبددت بنوره ظلمات الجاهلية . وقد كان أغلب شعراء المدائح النبوية من المقاتلين في جيش النبي (ص) ولذلك كانوا ينطقون بلسان المجاهدين في سبيل الله الذابّين عن نبيهم والمدافعين عن دينهم وعقيدتهم فجاءت اشعارهم حافلة بالحماس العقائدي وتدفق العواطف الصادقة وامتازوا بدقة وصفهم لعدد الحرب والاسلحة وميادين القتال لانهم كانوا يشهدون ذلك كله بأنفسهم ويرونه بأعينهم ويمارسونه بأيديهم . لقد امتزجت مدائح الشعراء النبوية بأحداث ووقائع هامة في التاريخ الاسلامي كمعارك بدر وأحد والخندق وحنين وفتح مكة وغيرها . وقد أظهر الشعراء في هذه المدائح حبهم الغامر لشخص النبي (ص) كقائد منقذ تتعلق به آمال المؤمنين في اقامة حكم الله في الارض واشاعة العدل بين الناس والقضاء التام على جميع مظاهر الظلم والبغي في المجتمع . وقد حفلت هذه المدائح بالرد على خصوم النبيّ في ادعاءاتهم الباطلة وأساليبهم الماكرة في تضليل الناس وحرفهم عن طريق الحق ، وتضمنت تلك الردود هجاءً لاذعاً لأولئك الخصوم يكشف عن معايبهم وجهالتهم . وكشفت المدائح النبوية في صدر الاسلام عن كثير من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في ذلك العصر ، وكانت مصداقاً واضحاً لمرحلة التحول من الجاهلية الى الاسلام . وعلى الصعيد الفني ألفينا الشاعر الاسلامي في هذا العصر ملتزماً بأوزان الشعر العربي المعروفة منذ العصر الجاهلي ، ولكن نجد لديه في الغالب ملائمة واضحة بين الوزن العروضي والغرض الشعري المتمثل بالمديح النبوي ، كما التزم هذا الشاعر بالقافية الموحدة في جميع القصائد تقريباً ولم نشهد لديه تنوعاً او تعدداً في القوافي إلا ما وجد من ظاهرة التصريع في مطالع القصائد وفي المشطور من الرجز . والفينا بعض الشعراء المسلمين قد استخدم دلالة الالفاظ الايقاعية في التعبير عن جوانب من تجاربه الشعورية في ميدان المدح النبوي ، واستخدم بعضهم ظاهرة التكرار لما لها من أثر موسيقي واضح ، ونرى منه تكرار الحرف والكلمة والعبارة ونرى أيضاً ما يسميه البلاغيون (رد العجز على الصدر) وهو داخل في حيز التكرار النغمي المراد به تقوية الجرس في ظاهر الكلام ، ومما دخل في حيز التكرار ايضاً نجد ما سماه البلاغيون(التجنيس) بنوعيه التام والناقص في تلك المدائح المباركة . ومن الراجح أن الشاعر المسلم في ذلك العصر لم يكن يقصد الى هذا الفن قصداً وانما كان يقع منه بديهة وعفواً من غير قصد . ويمكن أن نلمس أثر الانسجام النغمي في مواضع متعددة من المدائح النبوية ، وقد تولد ذلك الانسجام عن التناظر الموسيقي بين الالفاظ والعبارات وتعاقب تموجاتها الصوتية بطريقة واضحة . وان ما وقع من خلل واضطراب في اوزان بعض الاشعار كان مرده في الغالب الى نقص الرواية او الوضع والانتحال . ونجد لخيال الشاعر المسلم دوراً فاعلاً في خلق الصور الجزئية ، وربط هذه الصور ببعضها بعاطفة شاملة في سياق المديح النبوي ، وكانت تلك الصور في معظمها صوراً تشبيهية تفاعلت وتجاوبت أصداؤها في الصور العامة متحدة في الغالب بأفكار الشاعر وعواطفه ، وكان للبيئة أثرها الواضح فيما أنتجه الشاعر المسلم من صور حسية جسدت معاني الحق والخير والجمال في شخص النبي (ص) وأقواله وأفعاله . ومن حيث لغة المدائح النبوية كان الشاعر المسلم يمتح لغته لا من بيئته الخاصة فحسب ، بل من ذلك المعجم اللساني الكبير الذي يكوّن لغة الامة وتراثها الممتد عبر حدودها الجغرافية في علاقاتها بالامم الاخرى ، وقد كان للتغيرات التي أصابت المجتمع العربي بمجيء الاسلام صداها الواضح في تلك المدائح بما زخرت به من ألفاظ وتعابير اسلامية رقيقة ومصطلحات شرعية مأنوسة ، مما يدل على أن الاسلام كان يشكل مصدراً مهماً من مصادر لغة الشاعر في هذا العصر اذ نجده يستعير الفاظاً وعبارات بعينها أو بمشتقاتها من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف . ومما يتعلق بواقع المجتمع العربي في صدر الاسلام نشهد في المدائح النبوية الفاظ الحرب والسلاح والفاظ المهن والصناعة ، والفاظ الزيّ وانواع اللباس ، والفاظ الآلات المستخدمة في الحياة اليومية ، والالفاظ الدالة على بيئة البادية الطبيعية وما تتصف به في تضاريسها ومناخها ومياهها ونباتها وحيوانها ، وقد عبرت كل تلك الالفاظ تعبيراً صادقاً عن حياة الشاعر المسلم الواقعية واهتمامه الفكري في المجالات المختلفة من المجتمع والطبيعة ، وقد اكتسبت بعض الالفاظ في شعر المدائح النبوية دلالات رمزية ارتبطت بواقع الشعراء الاجتماعي ومنها لفظ (الخيل) الذي اكتسب دلالة رمزية على صفة الشجاعة وحالة الحرب ولفظ (الريح) الذي حمل دلالة رمزية على معنى الافتراق والتباعد وتشتت الشمل المجتمع وهناك الفاظ اخرى عديدة . وفي مجال الاسلوب نجد اكثر شعراء المدائح النبوية قد باشروا موضوعهم دون مقدمات وبخاصة شعراء المدينة ، وأشاع بعضهم روح القصة في التعبير عن تجربته الشعورية في رحاب المدح النبوي .
الكاتب: عبد الكريم المحمود
0المفضلة
903 المشاهدات
0 تعليقات