ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور |
واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
|
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع |
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
|
كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديم
|
برزت لترعب ساكنيه
|
من غلرفة ظلماء فيه
|
وتثاءب الطلل البعيد يحدق الليل البهيم
|
من بابه الأعمى ومن شباكه الخرب البليد
|
والجو يملؤه النعيب
|
فتردد الصحراء في يأس واعوال رتيب
|
أصداءه المتلاشيات
|
والريح تذروهن في سأم على التل البعيد
|
وكأن بعض الساحرات
|
مدت أصابعها العجاف الشاحنات الى السماء
|
تومي الى سرب من الغربان تلويه الرياح
|
في آخر الأفق المضاء
|
حتى تعال ثم فاض على مراقيه الفساح
|
فكأن ديدان القبور
|
فارت لتلتهم الفضاء وتشرب الضوء الغريق
|
وكأنما أزف النشور
|
فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون على الطريق
|
وتدفع السرب الثقيل
|
يطفو ويرسب في الأصيل
|
لجبا يرنق بالظلام على القبور الباليات
|
وظلاله السوداء تزحف كالليالي الموحشات
|
بين الجنادل والصخور
|
وعلى القبور
|
وتنفس الضوء الضئيل
|
بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام
|
ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجاب الظلام
|
فانجاب عن ظل طويل
|
يلقيه حفار القبور
|
كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين |
وكأن جولهما هواء كان في بعض اللحود
|
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود |
كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
|
وفم كشق في جدار
|
مستوحد بين الصخور الصم من أنقاض دار
|
عند المساء ومقلتان تحدقان بلا بريق
|
وبلا دموع في الفضاء
|
هو ذا المساء
|
يدنو وأشباح النجوم تكاد تبدو والطريق
|
خال فلا نعش يلوح على مداه ولا عويل
|
الا النعيب
|
وتنهد الريح الطويل
|
وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب |
باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين
|
بيض الشعور كأعظم الأموات لكن خالدين |
لا يهلكون علام تنعب ان عزرائيل مات
|
وغدا أموت غدا أموت
|
وهز حفار القبور
|
يمناه في وجه السماء وصاح رب أما تثور
|
فتبيد نسل العار تحرق بالرجوم المهلكات
|
أحفاد عاد باعة الدم والخطايا والدموع
|
يا رب ما دام الفناء
|
هو غاية الأحياء فأمر يهلكوا هذا المساء
|
سأموت من ظماء وجوع
|
ان لم يمت هذا المساء الى غد بعض الأيام
|
فابعث به قبل الظلام
|
يا رب أسبوع طويل مر كالعام الطويل |
والقبر خاو يفغر الفم في انتظار في انتظار
|
ما زلت أحفرةه وبطمر الغبار |
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل
|
مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود |
تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير
|
حتى الشفاءه يمص من دمها الثرى حتى النهود |
تذوي ويقطر في ارتخاء من مراضعها المغير
|
واها لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه |
واها لأجساد الحسان أيأكل الليل الرهيب
|
والدود منها ما تمناه الهوى واخيبتاه |
كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
|
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال |
إلا الحنين و ألف أنثى تحت أقدامي تنام
|
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال |
ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب
|
أين السنابك و القذابف و الضحايا في الدروب
|
لأظل أدفنها فلا تسع الصحارى
|
فأدس في قمم التلال عظامهن و في الكهوف
|
فكأن قعقهة المنازل في اللظى نقر الدفوف
|
أو وقع أقدام العذارى
|
يرقص حولي لا عبات بالضصنوج و بالسيوف |
نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
|
في الليل يكدح و النهار فلن يمر على قرانا |
أو بالمدينة و هي توشك أن تضيق بساكنيها
|
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا |
إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور
|
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها |
حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
|
أواه لو أني هناك أسد باللحم النثير |
جوع القبور و جوع نفسي في بلاد ليس فيها
|
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال |
وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
|
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها |
لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
|
و تخضهن إلى القرار و كالنيازك و الرعود |
تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
|
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي |
من كل شبر في المدينه ثم تنظم كالعقود
|
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها و يا لي |
رباه إني أقشعر أكاد أسمع في الخيال
|
أغنية تصف العيون
|
تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون |
و كأن ما بيني و بين الآخرين من الهواء
|
ثدي سخي بالحليب و بالمحبة و الأخاء |
يا رب أسبوع يمر و لست أسمع من غناء
|
إلا النعيب
|
و تنهد الريح الرتيب
|
واخيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين |
و الطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين
|
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام |
فلتمطرنهم القذائف بالحديد و بالضرام
|
و بما تشاء من انتقام
|
من حميات أو جذام
|
نذر علي لئن تشب لازرعن من الورود
|
ألفا تروى بالدماء و سوف أرصف بالنقود
|
هذا المزار وسوف أركض في الهجير بلا حذاء
|
و أعد أحذية الجنود
|
و أخط في وحل الرصيف وقد تلطخ وقد تلطخ بالدماء
|
أعدادهن لأستبيح عدادهن من النهود
|
و سأدفن الطفل الرمي و أطرح الأم الحزينة
|
بين الصخور على ثراه
|
و لسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينة
|
و يكاد يحنقها لهاثي و هي تسمع في لظاه
|
قلبي ووسوسة النقود نقودها و اخجلتاه
|
أنا لست أحقر من سواي و إن قسوت فلي شفيع
|
أني كوحش في الفلاء
|
لم أقرأ الكتب الضخام و شافعي ظمأ و جوع
|
أو ما ترى المتحضرين
|
المزدهين من الحديد بما يطير و ما يذيع |
مهما ادنأت فلن أسف كما أسفوا لي شفيع
|
أني نويت و يفعلون و إن من يئد البنين |
و الأمهات و يستحل دم الشيوخ العاجزين
|
لأحط من زان انتهك الغزاة و ما استباحوا |
و القاتلون هم الجناه و ليس حفار القبور
|
و هم الذين يلونون لي البغايا بالخمور |
و هم المجاعة و الحرائق و المذابح و النواح
|
و هم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره |
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
|
أو يفحصان عن الجذور و يلهثان من الأورام
|
و الصخر كالمقل الضريرة
|
و سيوثقون بشسعر أختي قبضتي و كالظلام |
و كخضة الحمى تسمرها على دمها صدور
|
تعلو و تهبط باللهاث كأنهن رحى تدور |
يا مجرمون إلى الوراء فسوف تنتفض القبور
|
و تقيء موتاها و يا موتي على اسم الله ثورا |
رباه عفوك إن قابيل المكبل بالحديد
|
في نفسي الظلماء هب وقر يعصره الملال
|
فالليل جاء وما أزال
|
مستوحدا أرعى القبور و أنفض الدرب البعيد
|
و كأن يا بشرى كأن هناك في أقصى الجنوب
|
خطا كأذيال الظلام ولمعة كدم الغروب
|
لكأنه ضيف جديد
|
و بدا الجناز و راح يشهق و هو يدنو في ارتخاء
|
الأوجه المتحجرات يضيئها الشفق الكئيب
|
و الغمغمات الخافتات من انفعال أو رياء
|
و النعش يحجبه غطاء
|
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب |
فيها قواه و ذاب فيها كوكب واهي الضياء
|
حتى إذا انهال التراب و صفح القبر الجديد |
و تراعش الألق الضئيل على الظهور المتعبات
|
حتى اضمحل و غيبتها ظلمة الأفق البعيد |
كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب
|
بين القبور الموحشات
|
و على الخرائب و الرمال و كان حفار القبور
|
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام
|
يرعى مصابيح المدينه و هي تخفق في اكتئاب
|
ويظل يحلم بالنساء العاريات وبالخمور
|
و تحسست يده النقود وهيأ الفم لابتسام
|
حتى تلاشى في الظلام
|
-2- النور ينضح من نوافذ حانه عبر الطريق
|
و تكاد رائحة الخمور
|
تلقى على الضوء المشبع بالدخان و بالفتور
|
ظلا كألوان حيارى واهيات من حريق
|
ناء توهم في الدجى الضافي على وجه حزين
|
و تلوح أشباح عجاف
|
خلف الزجاج تهيم في الضوء السرابي الغريق
|
و يشد حفار القبور على الزجاجة باليمين
|
و كمن يحاذر أو يخاف
|
يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال |
و تحركت شفتاه في بطء و غمغم في انخذال
|
أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاه |
كالفاتحين و تشتريها بالذي ملكت يداك
|
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاه |
أو في أظافر لاحقتها ذات يوم مقلتاك
|
سأعود لانهد تعصره يدي حتى الذهول |
حتى التأوه و الأنين و صرخة الدم في العروق
|
و السكرة العمياء و الخدر المضعضع و الأفول |
و الأذرع المتفترات يلون الضوء الخفوق
|
هزاتها المستسلمات و ينفح الدم و العبير
|
ظل لهن على السرير
|
الأذرع المتفترات و زهرتان على الوساد
|
نسجتهما كف مخضبة الأظافر زهرتان
|
تتفتحان على الوسادة كالشفاه و تهمسان
|
نغما يذوب إلى رقاد
|
و تألق الجيد الشهي و لفحة النفس البهير |
و النور منفلتا من ال|أهداب تثقله الطيوب
|
قلقا كمصباح السفينه راوحته صبا لعوب |
و تخافق الأظلال في دعة ووسوسة الحرير
|
و الحلمتان أشد فوقهما بصدري في اشتهاء |
حتى أحسهما بأضلعي و أعتصر الدماء
|
باللحم و الدم و الحنايا منهما لا باليدين |
حتى تغيبا في صدري إلى غير انتهاء
|
حتى تمصا من دماي و تلفظاني في ارتخاء
|
فوق السرير
|
و تشرئبا
|
ثم نثوي جثتين
|
لولا التماعات الكواكب و انعكاس من ضياء |
تلقيه نافذة ووقع خطى تهاوى في عياء
|
يصدى له الليل العميق و حارس تعب يعود |
و سنان يحلم بالفراش و زوجه تذكي السراج
|
و تؤجج التنور صامته و أخيلة اللهيب |
تضفي عليها ما تشاء من اكتئاب و ابتهاج
|
ثم اضمحل الحارس المكدود و النغم الرتيب |
وقع الخطى المتلاشيات كأنه الهمس المريب
|
ما زال يخفق من بعيد
|
و تململت قدمان و ارتفعت يد بعد انتظار
|
و هوت على الباب العتيق فأرسل الخشب البليد
|
صوتا كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
|
بين القبور الموحشات و أطبق الصمت الثقيل
|
و أطل من إحدى النوافذ و هي تفتح و ارتياب
|
وجه حزين ثم غاب
|
و تحرك الباب المضعضع و هو يجهش بالعويل
|
و تقول أنثى في اكتئاب
|
ضيف جديد ثم تفرك مقلتيها في فتور
|
و يظل يزحف كالكسوف يحجب الألق الضئيل
|
عن وجهها ظل يقيدها بحفار القبور
|
-4-
|
في زهوة الشفق الملون حيث يحترق النهار
|
في عودة الرعيان أشباحا يظللها الغبار
|
في ساعة الشوق الكئيب إلى شواطيء كالضباب
|
و إلى أكف مخلصات
|
و إلى أغان مبهمات هائمات في شعاب
|
أنأى من الأصداء تغشاها نجوم ساهمات
|
في ساعة الشفق الملون كان إنسان يثور
|
بين الجنادل و القبور
|
نفس معذبه تثور
|
بين الجنادل والقبور
|
أأظل أحلم بالنعوش وأنفض الدرب البعيد |
بالنظرة الشزراء واليأس المظلل بالرجاء
|
يطفو ويرسب والسماء كأنها صنم بليد |
لا مأمل في مقلتيه ولا شواظ ولا رثاء
|
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات |
لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
|
فات الأوان فخط لحدك واثو فيه إلى النشور |
لو أنها انطبقت علي كأنها فم أفعوان
|
لو أنها اعتصرت قواي
|
و مات ظل الأرجوان
|
في آخر الأفق البعيد و لألأت قطرات نور |
مما تبعثره المدينة و هي تبسم في فتور
|
و كأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه |
فسرت لهيبا في دماه و ألغمتها بالرغاب
|
و كأنهن على المدى المقرور آلاف الشفاه |
تدعوه ظمأى لاهثات مثل أحداق الذئاب
|
ما زلت تحترقين من فرح و أحتراق انتظار
|
أنا انتهينا
|
يا سماء و يا قبور أما أراها
|
لا بد من هذا وصوب مقلتيه إلى السماء |
حنقا يزمجر ثم أطرق و هو يحلم بالقاء
|
باب تفتح في الظلام و ضحكة و شذى ثقيل |
ويدان تجتذبان أغطية السرير و ترخيان
|
إحدى الستائر
|
ثم تنطفئان في الضوء الضئيل
|
و تغيم أخيلة و تجلى ثم تبرز حلمتان
|
ويطل وجه شاحب القسمات مختلج الشفاه
|
و تغيم أخيلة و تحلى ثم تفتح مقلتاه
|
فيرى القبور
|
و يرى المصابيح البعيدة كالمجامر في اتقاد
|
و يرى الطريق إلى القبور
|
يكتظ بالأشباح زاحفة إليه على اتئاد |
فيصيح من فرح سألقاها فإن الطريق
|
نعشا و إن حف النساء به و أملق حاملوه |
إني سألقاها و ينهض و هو يرفع باليمين
|
فانوسة الصدىء العتيق
|
يلقي سناه على الوجوه
|
و على الدثار القرمزي و في عيون القادمين
|
لو أنه اخترق الدثار بمقلتيه و بالضياء
|
لو حدث التابوت عمن فيه أو رفعت يداها
|
أو هبة للزعزع النكباء حاشية الغطاء
|
تحت النجوم الساهمات
|
لكاد ينكر من رآها
|
و تظل أنوار المدينة و هي تلمع من بعيد
|
و يظل حفار القبور
|
ينأى عن القبر الجديد
|
معتثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور |