بكَرَ " الخريفُ " فراح يُوعِدهُ |
أنْ سوفَ يُزْبِدُهُ ويُرْعِدُهُ
|
وبَدَتْ من الأرماث ، عائمةً |
فيه ، طلائعُ ما يُجَنِّدُه
|
وكأنَّ ، من زَبَدِ الرِّمال على |
أمواجه ، طِفْلاً يُهَدْهِده
|
واستَثْقَلَ النوتيُّ مِجْذَفَه |
بَرِماً بمِقبَضه يُجَدِّده
|
وتحفَّزَتْ شُمُّ الجبال لهُ |
بثُلوجها كِسفَاً تُهدِّده
|
ظلَّتْ تَعُدُّ خُطاه تَرقُبُه |
في الصيفِ مُزدهراً وتحسُده
|
جَرداءُ ، وهو يَضِجُّ مَلْعَبُهُ |
ظَلْماءُ ، وهو يُشَبُّ مَوقِده!
|
خرَساءُ ، والأنعامُ تُرقصهُ |
وكأنَّها بالموج تَرفِده
|
تَتَعَثَّرُ الأجيالُ خالدةً |
فيها .. ويَحضُنُها مُخَلَّده
|
" داودُ " بالمزمارِ يُوقِظه |
ويُنيمُهُ بالعُود " مَعبده "
|
والهِيمُ تخزُنُهُ وتنهبُهُ |
والغِيدُ تُنزِلهُ وتصُعِده
|
ألْقَتْ إليه مِن مفاتِنِها |
ما ليسَ إلاَّ اللهُ يَشهَده
|
ورمَتْ له يقظانَ مِن مُتَعٍ |
ما نحنُ في الأحلامِ نَنشُده
|
والنجمُ حارسُها وحارسُه |
والظلُّ موعدُها وموعده
|
الآنَ أُدْرِكُ سِرَّ زَفْرتهِ |
إذ لم يَعُدْ سِرّاً تَجَلّده
|
فَلفَقدِه نَفَساً تَنَفُّسُهُ |
ولذِكره نَهداً تَنَهَّده
|
يتَعقَّبُ المسكينُ موجَتَها |
عَبَثاً بمَوْجتهِ وتطْرُده
|
لم يَدْرِ حتى الآنَ شِيمتَها |
حسِبَ الهوى نَغَماً يُردِّده
|
أمسِ استطابتْ فيه مَقصِدَها |
واليومَ أهونُ منه مَقصِده
|
لو يستطيعُ لَرَدَّ خُضرتَهُ |
وبرغْمِ سَفْحَيْهِ تورَّده
|
وبرغْمهِ أنْ حبَّ خابِطُهُ |
للزارعينَ وذُمَّ مَورده
|
ماسرَّهُ " والبِيضُ " تُنْكِرهُ |
أنَّ المراعي الخُضْرَ تَحْمَده!
|
فالذكْرَياتُ الغُرُّ يَشهدُها |
رقراقُهُ الصافي وتَشْهَده
|
مُتطامِنٌ لم تُخْشَ صَولتُه |
لكبْ تَضيقُ بصائِلٍ يَده
|
فمِنَ الشَّمال يدٌ وتُنْهِضُهُ |
ومِنَ الجَنوب يدٌ وتُقْعِده
|
كالنَّاسِ للحُفُراتِ مَرجِعُه |
ومِنَ النِّطافِ النُزْرِ مولِده
|
وخُضوعُهُ كخُضوعهمْ أبداً |
للغيبِ أنَّى سارَ يقصده
|
والفَصلُُ ، دونَ الفَصلِ ، يُنْعشُهُ |
والأرضُ ، دون الأرض ، تُسعِده
|
لَغِبٌ فلا الإِمساءُ يُوسِعُهُ |
عَطْفاً ، ولا الإِصباحُ يُنجِده
|
النجمُ أعمى لا يرافِقُهُ |
والطيرُ أخرَسُ لا يُغرِّده
|
مُتحَيِّرٌ لا يستَحِمُّ بهِ |
فَلَكٌ ولا الأضواءُ تُرشِده
|
وكأنَّ مُحتَشَدَ الضَّبابِ بهِ |
بابٌ بوجهِ الشُهْبِ يُوصِده
|
والشَّمسُ فاترةٌ تُذَكِّرهُ |
وضَحَ السَّنا أيَّامَ تُوقِده
|
أيَّامَ تنفُخُ في قَرارتهِ |
من رُوحها نَفَساً تُجَدِّده
|
والبدرُ .. حتى البدرُ يُوحشه |
في يومِ محنتهِ ويُفرده
|
هذا الذي ما كانَ مِثلَهما |
للصيفِ من مَثَلٍ يُخَلِّده
|
كانا يَرُبَّانِ الغرامَ معاً |
ذا يَصْطَفيهِ ، وذا يُهَدْهِده
|
لم يبقَ من هَرَجِ الربيع بهِ |
الا الذي قد فات أجوده
|
ومن العريشِ على شواطئه |
إلاّ خُشَيْبات تحدِّده
|
ركبٌ تحمل عنه ناشطهُ |
واقام عاجزُه ومُقْعَده
|
والسامرُونَ انفضَّ عُرْسُهُمُ |
لا جِدُّهُ أغنى ، ولا دَده
|
حجَلَ الغُرابُ على مواقِدهمْ |
وعلى الرَّمادِ بها يُلَبِّده
|
ومنَ الحَمامِ أظَلَّهُ زَجِلٌ |
كَلِفٌ بلحنِ الصَّيفِ يُنْشِده
|
ضَنْكُ المسَفَّةِ يَدَّني عَطَشاً |
وتَموُّجُ الآذيِّ يُبعِده
|
مُتَسائلاً بشمَ حالَ رَيِّقُهُ |
عن حُرِّ لونٍ كان يَعهَده!؟
|
وعلى الضِّفافِ، البطُّ مُنكمِشٌ |
لاهٍ بذاوي النبتِ يَعضِده
|
شَعْثُ النَّسيل ، كأنَّ عابثةً |
مَجنونةً راحتْ تُبدِّده
|
ما الصَّيفُ سبَّطَ من جَدائلِه |
جاءَ الخريفُ له يُجَعِّده!
|
بادي الخُمولِ يؤودُه عُنُقٌ |
في أمس ، من زهْوٍ ، يُمدِّده!
|
وكأنَّه ، إذ خِيفَ مَسبَحُه |
مُتَرِّهبُ قد سُدَّ مَعْبَده!
|
أتُرى يعودُ غداً لِمَلْعَبهِ |
لأمْ لا يعودُ كأمسه غده؟!
|
وتهضَّمَ النُوتيُّ زورقَه |
بالقار، بعد الغِيد، يَحشُده
|
يقتاتُ من كِسَرٍ يُثَبِّتثها |
في اللوح ، أو حَبلٍ يُمَسِّده
|
لم أدْرِ لو لم تُنبِني سُرُجٌ |
في شاطئيه ِ ، أينَ مَرقده
|
ومَضَتْ .. فقلتُ : النّومُ أعوزَه |
وجُفونُه ، رُمْداً ، تُسَهِّده!
|
وخَبَتْ .. فقلتُ : غفا ، وإنَّ صَدىً |
في السَّمْعِ من زَفْرٍ يُصَعِّده!
|
وكأنَّ تابوتاً يُعِدُّ لهُ |
مَلاَّحُه فيما يُنَضِّده
|
وحسِبتُ مِزماراً يُشَيَّعُه |
للقبرِ ، مسماراً يُشَدَّده
|
وتجاوُبَ الأجْراءِ قافيةً |
سمحاءَ باكيةً تُمَجّده!
|
يا صامتاً عِيّاً ، ومَنْطِقُهُ |
مُتَفَجِّرُ اليَنْبُوع سَرْمَده
|
تَهفو فرائدُ عِقدهِ جَزَعاً |
مما بها ، وتهيمُ شُرَّده
|
وتُثيرُ فيه الذكرياتُ شجاً |
يَعيا به فيَخُورُ أيِّده
|
ومُوَكَّلاً بالدَّهر ، يَزرعُهُ |
في شاطئيه ثمَّ يحصُده
|
يا شَطُّ ، أنتَ أعزُّ مُنقَلباً |
في الناطقينَ بما تُخَلِّده
|
وكذا الطبيعةُ في عناصرها |
جِنٌّ حَبيسُ الرُّوحِ مجهَده!
|
نَرتادُ جامدَها نُفَجِّرُه |
وعقيمَ غامضِها نُوَلَّده
|
فلعلَّ ذا ، ولعَّلها لُغةٌ |
من غيرِ ما جرْسٍ نعوَّده
|
ولربَّما ضَحِكتْ بسائطُها |
هُزْءاً بنا ممَّا نُعَقِّده |